Pen

أن نمو التجارة الدولية وتشابك المصالح الاقتصادية وثورة الاتصالات هي التي جعلت العالم قرية واحدة ، كذلك وسهولة انتقال رؤوس الأموال في شكل استثمارات ضخمة وظهور أنواع جديدة من العقود الدولية ، مثل عقود نقل التكنولوجيا وعقود الإنشاءات وعقود التجارة الدولية وعقود النقل الجوي والبحري والبري وعقود التأمين والعقود المصرفية للبنوك كل ذلك أوجد الحاجة الماسة لتطوير آلية التحكيم التجاري الدولي ليكون الوسيلة الفعالة والمناسبة بل والملاذ الأمن للرجوع إليه في حسم أي خلافات تنشب بين الأطراف المتعاقدة فلهذا أصبح واقع التحكيم يشكل عصباً مهماً في مجال الأعمال في التطوير بل وحتى اغلب المتعاقدين يصرون على التحكيم للأسباب الأنفة الذكر بعيدا عن القضاء الوطني وإجراءاته.

ويضاف إلى ذلك أن الكثير من المصادر ذات الصلة بموضوع التحكيم قد أجمعت على أن التحكيم يلعب دورا بارزا وأساسيا في تطوير وصياغة قانون مهني تعاوني خاص بالتجارة الدولية ، وقد أصبح التحكيم التجاري الدولي ذو نطاقا قانونياعالميا . كما انه تغلب إلى حد ما على عدم الثقة الناجمة عن اختلاف النظم الاقتصادية والسياسية للمتعاملين مع التجارة الدولية. وبذلك أصبح التحكيم ضرورة يفرضها واقع التجارة الدولية ولم يعد دوره مقصوراً على فض المنازعات بعد نشوبها.

ويعتبر التحكيم احد أهم الوسائل السريعة والفعالة لحل المنازعات التي تثار بين الخصوم وهو قديم في نشؤه حيث عرفه القدماء في جميع الحقب الحضارية المتعاقبة .

التحكيم لغة :

التحكيم مأخوذ من مادة حكم ، وهو المنع وأول المنع الحكم فهو منع من الظلم ، ومعناه التفويض وحكّم فلاناً في كذا إذا جعل أمره إليه وفوضه بالحكم ، وحكّمه في الأمر تحكيما أمره أن يحكم ، وحكّمت الرجل بالتشديد فوضت الحكم إليه ، وأمرته أن يحكم فيه .يقصد به التفويض في الحكم فهو مأخوذ من حكم ( واحكمه فاستحكم ) أى صار ( محكما ) في ماله ، ( تحكيما ) إذا جعل إليه الحكم فيه ( فاحتكم ) عليه ذلك .وحكموه فيما بينهم ، أمروه أن يحكم في الأمر ، أى جعلوه حكما فيما بينهم .

التحكيم شرعا واصطلاحا :

يقصد به تولية الخصمين حكما يحكم بينهما ، أى اختيار ذوى الشأن شخصا أو أكثر للحكم فيما تنازعوا فيه دون أن يكون للمحكم ولاية القضاء بينهم ، ومن ثم فان التحكيم شرعا يعنى تولية وتقليدا من طرفي الخصومة لثالث ليفصل فيما تنازعاه . كما يرى البعض أن التحكيم هو " الاتفاق على طرح النزاع على شخص معين ، أو أشخاص معينين ليفصلوا دون المحكمة المختصة به ، فبمقتضى التحكيم ينزل الخصوم عن الالتجاء إلى القضاء مع التزامهم بطرح النزاع على محكم أو أكثر ليفصلوا فيه بحكم ملزم للخصوم ".

وقد أشارات المادة الرابعة من قانون التحكيم المصري إلى أن لفظ التحكيم هو الذي يتفق عليه طرفا النزاع بإرادتهما الحرة سواء كانت الجهة التي تتولى إجراءات التحكيم ، بمقتضى اتفاق الطرفين ، منظمة أو مركز دائم للتحكيم أو لم يكن كذلك .

ومما سبق نخلص إلى أن التحكيم عبارة عن سلسلة من الإجراءات تبدأ باختيار المتنازعين طرف محايد يعهدان إليه بمهمة الفصل في نزاعهما وتراضيان مقدما على النزول عند مايراه الأخير من حل لذلك النزاع ، ويتصل بذلك قبول ذلك الحكم لتلك المهمة التي انتدب لها ليصدر في النزاع حكما يكون بمثابة قضاءها في ذلك الأمر.

ولقد مر التحكيم بمراحل ثلاثة حتى تبلورت أهميته في عصرنا الحاضر، لذا يجدر بنا الإشارة إلى تلك المراحل قبل الحديث عن مدى ما يتمتع به التحكيم من أهمية في مجال التجارة الدولية على وجه الخصوص ، حيث يمكننا الحديث عن النشأة التاريخية للتحكيم في مراحل ثلاث :

المرحلة الأولى : التحكيم كأسلوب بديل عن محاكم الدولة.

من الثابت تاريخيا أن فكرة السلطة العامة القائمة على شؤون الأفراد والدولة معا ،وتحديد السلطات الثلاث الأساسية في شكل السلطة القضائية والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، لم يكن قد ظهر واستقر كما هو الحال الآن في الدولة المعاصرة ،كما لم تكن الدولة قد تصدت بعد لمسؤولياتها في شان تأمين العدالة في المجتمع ، لذا لم يكن أمام الفرد سوى الحصول على حقه بنفسه ، وكان من الضروري أن يعهد إلى شخص ثالث بإيجاد حل للخلاف ، وهذا الشخص الثالث إما أن يختاره الطرفان أو يكون ممن لهم نفوذ في المجتمع أو من ذوى المؤهلات والصفات .

وفى تلك الفترة كان التحكيم عبارة عن هدنة لتجنب ممارسة العدالة الفردية ، وكان بمثابة الوسيلة الوحيدة الممكنة لحسم المنازعات بالطرق السلمية ، الأمر الذي اعتبره البعض أعلى مراحل التطور الذي وصلت إليه الجماعات الفطرية ، حيث استقرت فكرة التحكيم في عقول الناس واعتادوا اللجؤ إليها ، حتى ترسخت كعادة أصيلة في نفوسهم . ولكن ذلك لم يكن إجبارا عليهم ، بل كان أمرا اختياريا وتنفيذه الحكم الصادر فيه متروك إلى المتنازعين .

المرحلة الثانية :التحكيم التوفيقى إلى جانب محاكم الدولة

على اثر ظهور فكرة السلطات العامة الثلاث ، وذلك بعد تطور الإنسانية بخروجها من العصور البدائية ، بدأت تلك السلطات في ممارسة مهامها والنهوض بأعباء العدل المنوطة بها غير أن ذلك التطور لم يعنى اختفاء التحكيم ، ولكن المجتمع حرص على بقائه ولكن بشكل ثانونى إلى جانب سلطة الدولة في القضاء بل وتحت رقابة تلك السلطة وإشرافها عليه.

ولقد استمر التحكيم مرجعا للمساعي الحميدة للصلح بين المتنازعين ، هادفا إلى التوفيق والحيلولة دون اقتضاء الحقوق بالقوة والعنف بين الناس ، وفى تلك الفترة ، خاصة في القرن التاسع عشر ، عمل التحكيم على المصالحة بين المتنازعين أكثر من حسمه للنزاع ، حيث كان يتم اللجؤ إلى التحكيم بعد نشوب النزاع ، وكان المحكمون يعينون من قبل الأهل أو الأقارب المتصلين بأطراف النزاع ، أو من الوجهاء الذين تربطهم بأطراف النزاع رابطة قوية أو من الحكماء الذين يعرفون كيفية وطرق التوفيق بين المتنازعين .

ولقد كان الهدف الأساسي للمحكمين في تلك المرحلة هو إيجاد تسوية تكون بمثابة صلحا بين إطراف النزاع . ولقد سادت في تلك الآونة مقولة " الصلح سيد الأحكام " لذا كانت شخصية المحكم ذات اثر كبير في هذا الشأن ، كما كان اختياره يتوقف على اعتبارات شخصية وعائلية ، خاصة وانه كان يعتبر مصلحا أكثر منه قاضيا .

المرحلة الثالثة : التحكيم كحل قضائي حاسم إلى جانب محاكم الدولة .

مع بداية القرن العشرين ظهر إلى الوجود نوع أخر من التحكيم، اتسم بميزتين أساسيتن:

1- انه تحكيم يختاره الطرفان في معظم الأوقات قبل نشوب النزاع في صورة شرط التحكيم ، ولم يعد مقصورا على الاتفاق على التحكيم بعد نشوب النزاع .

2- ظهرت إلى الوجود مجموعة من الهيئات والتنظيمات المهنية والدائمة للتحكيم تقدم خدماتها لرجال الأعمال والصناع والتجار

وفى ظل هذه المرحلة الثالثة ، أضحى التحكيم الوسيلة الأكثر شيوعا وذيوعا في مجال التجارة الدولية ، بل أصبح القضاء الأساسي والأصيل لتلك التجارة وتسوية الخلافات الناشئة عنها ،وذلك نظرا لازدياد أهميته التي ارتبطت بسلسلة التطورات الاقتصادية المتلاحقة في ظل سيل التشريعات الساعية إلى سد حاجة المجتمعين الداخلي والدولي ، وهو الأمر الذي كان له بالغ الأثر في بروز التحكيم وانتشاره ، فإذا كانت المحاكم هي الطريق العادي لفض المنازعات المدنية والتجارية على السواء باعتبارها طريقا مأمونا أمام الخصوم في ظل الضمانات التي تكفل العدالة .

ولاشك أن التحكيم درب من القضاء الخاص يقوم على مبدأ سلطان الإرادة أي أن أطراف النزاع أو أطراف العلاقة تتفق فيما بينها على اللجوء إلى التحكيم في حل خلافاتها ومنازعاتها التي قد تحصل أو حصلت وهو تخل من المتعاقدين أو الخصوم عن حقهم في اللجوء إلى القضاء واعتمادهم التحكيم كسبيل لحل الخلاف بينهم ، وبما أن التحكيم ينبني على أساس قبول واتفاق الأطراف على اللجوء إليه في حالة حصول خلاف بينهما فقد سمي ذلك بشرط التحكيم. أما إذا حصل الخلاف بين الأطراف ولم يكن بينهما مسبقاً اتفاق للتحكيم ثم اتفقا بعد ذلك أي بعد حصول الخلاف على حله بواسطة التحكيم سمي ذلك بمشارطة التحكيم.

ويختلف التحكيم عن كلا من الصلح والقضاء ، حيث أن الصلح يتم بين الخصوم أنفسهم أو من ينوب عنهم أما التحكيم فان المحكم يقوم فيه بمهمة القاضي فيصدر قراره سواء رضي به الطرفان أم لم يرضوا. كما يختلف التحكيم عن القضاء في أن ولاية الأخير عامة فينظر في جميع القضايا التي تعرض عليه بينما ولاية المحكم مقصورة على قضية المتخاصمين الذين رضوا بأن يحكم في تلك القضية المعروضة حصراً ولا تتعدى سلطاته إلى قضية أخرى وسنأتي إلى شرح ميزة التحكيم على القضاء بعد قليل ، ويجب أن تتوافر في التحكيم ثلاثة أركان رئيسية :

1) إيجاب من المتخاصمين في تولية الخلاف بينهم إلى محكمين يحكمون بينهم.

2) قبول من المحكمين بذلك.

3) المحل المعقود فيه التحكيم.

ومما لاشك أن التحكيم قد أصبح طريقة مألوفة ومرغوبة لفض المنازعات والتي تنشأ في الغالب عن علاقات تعاقدية وذلك عوضاً عن اللجوء إلى القضاء . بل أصبح التحكيم أكثر ضرورة في مجال علاقات التجارة الدولية ، لأن كلا طرفي هذه العلاقة لا يرغب عادة الخضوع لقضاء محاكم الطرف الآخر.

ولقد تزايدت أهمية التحكيم في الآونة الأخيرة نظرا لضرورة الوفاء بحاجة التجارة الدولية وتشابك معاملات هذه التجارة وتعقدها ، إضافة إلى ما تثيره من منازعات ذات طبيعة خاصة تحتاج إلى وسائل غير تقليدية في حلها وذلك دعما لمسيرة القضاء في تحقيق امن وسلام المجتمع . ويضاف إلى ما سبق أن التحكيم يفسح المجال لكل رأي حصيف وعلم رشيد ورأي سديد وخبرة راسخة أن يشارك في إشاعة الوئام في المجتمع والقضاء على النزاعات والخلافات وهي لا تزال في بدايتها . وكم في مجتمعنا من طلبة العلم وأصحاب الرأي والمتخصصين والخبراء ، الذي يمكن أن يستفاد منهم في قضايا تحكيمية ، ولهم تأثيرهم ومكانتهم على أطراف النزاع ،إذا دخلوا في تلك القضايا تمكنوا من إنهائها بأسرع وقت وأقصر طريق .